08-12 جواهر الحکم المجلد الثامن ـ رسالة في معني خلود اهل الجنة و النار ـ مقابله

رسالة فی معنی خلود اهل الجنة و النار

 

من مصنفات السید الاجل الامجد المرحوم الحاج

سید کاظم بن السید قاسم الحسینی اعلی الله مقامه

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 491 *»

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين و صلي الله علي خير خلقه محمد و آله الطاهرين.

اما بعــد فيقول العبد الفقير الحقير الجاني الفاني كاظم بن قاسم الحسيني الرشتي انه قدسألني بعض الديانين الخيرين ان اكتب كلمات واضحة الدلالة علي ان الجنة و النار باقيتان لاتبليان و لاتنفيان بل الله سبحانه و تعالي يبقيهما و من فيهما الي ابد الآبدين و دهر الداهرين من غير انقطاع و لا نهاية و ان اهل النار مخلدون فيها ابداً لايخفف عنهم العذاب الي مالا نهاية له و ذكر سلمه الله ان بعض الناس قد دخلتهم الشبهة فبقوا في هذا الوادي متحيرين زعماً منهم بان الله اذا كان قبل كل شي‏ء و بعد كل شي‏ء و الشي‏ء علي عمومه و كليته بحيث يشمل الجنة و النار فكيف يمكن القول بانهما باقيتان علي الدوام فان البعدية ما تتحقق الاّ بان ‏يعدم الشي‏ء و يبقي الله و الاّ فلم‏يكن بعداً كماهو المعلوم ثم لو فرضنا الدوام فكيف (كيف خ‌ل) يمكن القول بدوام العذاب للكفار و اهل النار مع انهم ماعصوا الاّ مدة يسيرة و كيف يقابله الحكيم بالعذاب الدائم الغير المتناهي و نحن نجد في انفسنا انا اذا اطلنا تعذيب شخص معاند لنا اذا تسلطنا عليه و قهرناه و علمنا بانه لا مدفع له بعد عنا فلا شك انا (ان خ‌ل) نرفع العذاب عنه و نكتفي بما فعلنا اولا فكيف الحكيم العليم الرؤوف الرحيم الذي لا غاية لرحمته و لا نهاية لرأفته و ان الرحمة التي فينا نترحم بها بعضنا بعضاً جزء من مائة رحمة الرحمن كمادلت عليه الاخبار بان الله جعل الرحمة مائة جزء فجعل جزءاً واحداً في كل الخلق و ادخر الباقي فاذا كان يوم القيمة يضيف هذا الجزء الي الباقي فيرحم بها الخلق و هذا ينافي الخلود الدائم اذا كان الجزء الواحد الذي عندنا من الرحمة ما نرضي بالعذاب الابدي فكيف الله سبحانه مع ان رحمته سبقت غضبه و ذكر لي ايده الله ان هذه الشبهة و امثالها دخلت علي اذهانهم بحيث تحيروا و توقفوا و لم ‏يجدوا لهم مخلصاً فامتثلت امره ابتغاء لوجه الله و طلباً لمرضاته و

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 492 *»

راجياً لمثوباته عسي الله ان ‏ينفع به المؤمنين و يجعله لنا ذخراً ليوم الدين مع ما انا فيه من اغتشاش البال و اختلال الاحوال و توارد الاشغال المانعة من استقامة الحال و الله المستعان في المبدأ و المآل.

فاقــول: اعلم ان الناس علي قسمين عوام و خواص و لا ثالث لهما فاما العوام فلايخلو اما انهم دخلوا في الدين علي بصيرة و يقين ام لا و مرادي بالبصيرة انهم عرفوا بالوجدان و اعتقدوا علي الايقان بان لهم رباً عالماً قادراً سميعاً بصيراً حياً عادلاً و انه سبحانه لم ‏يخلق الخلق عبثاً و لم‏يتركهم سدي بل جعل لهم سنة و شريعة يعملون بها لينتظم بها معاشهم و معادهم و جعل لهم حفظة و حملة و سفراء و وسايط يتلقون الاحكام و السنن و الشرايع من ربهم و يؤدونها الي رعيتهم و غنمهم و هم الانبياء و ان الانبياء لابد ان ‏يكونوا مخصوصين من الله سبحانه بآيات بينات يقطع العقل بانهم من عند الله سبحانه و تعالي و يكون ذلك مقروناً بالتحدي و ان نبينا و سيدنا و مولانا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم صلي‌الله‌عليه‌و‌آله نبي حق قد اتي بالآية البينة بل الآيات البينات المحكمات بحيث يقطع العاقل بانه ليس بساحر و لا كذاب و ان الله سبحانه لطفاً منه و كرماً قد ايده بكتاب منزل فيه تبيان كل شي‏ء و خبر من مضي و من بقي الي يوم القيمة.

فاذا عرف هذا المقدار بصحيح الاعتبار لزمه ان ‏يأخذ بقول نبيه و يصدق بما اخبر به عن ربه و كذا يصدق و يقر بكل ما هو في كتابه الذي اتي به عن ربه و ان لم ‏يعرف حقيقة ذلك و ماهيته لان العامي ليس عنده من العلم شي‏ء فلايمكنه اذا صح له شي‏ء عن نبيه صلي‌الله‌عليه‌و‌آله الذي جاء به من عند ربه ان‏يردّه او يتوقف فيه او يسأل عن كمه و كيفه فان كلّ ذلك رد علي الله و دعوي العلم و المعرفة مع انه قد فرضنا خلاف ذلك و لو سلمنا ان عنده علماً لكنه اني يبلغ علمه عن علم الله سبحانه او علم نبي الله صلي‌الله‌عليه‌و‌آله فاذا اخبره النبي صلي الله‌عليه‌و‌آله عن حكم مسألة من احوال الدنيا و الاخرة يجب عليه التسليم و التصديق و لا يقول ان ذلك لا يطابق عقلي و لا يوافق فهمي فان فهمه قليل و عقله عليل فيتهم نفسه و يتهم فهمه و يجهل علمه و يقبل

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 493 *»

ذلك علي رغم انفه من غير ان‏ يجد في نفسه اضطراباً و لا في قلبه اغتشاشاً و الاّ كان راداً علي الله سبحانه مدعياً تساوي علمه مع علم النبي عليه‌السلام و ما اوتيتم من العلم الاّ قليلاً و قد قال سبحانه تصريحاً بماذكرنا في قوله الحق فلا و ربك لايؤمنون حتي يحكموك فيماشجر بينهم ثم لايجدوا في انفسهم حرجاً مما قضيت و يسلّموا تسليماً و هذا الذي قلنا اذا قطع علم علماً قطعياً ثابتاً علي ان هذا قول نبيه صلي‌الله‌عليه‌و‌آله و الاّ فلا و هذا القطع يحصل بامور كثيرة منها و هو اعظمها و اعلاها ان ‏يتفق امته علي شي‏ء بالاستناد اليه صلي‌الله‌عليه‌و‌آله بمعني ان كلهم متفقين (متفقون خ‌ل) علي ان نبيهم هكذا قال لا انهم يجتمعون بمجرد الاجتماع فان ذلك باطل الاّ بشرايط و اما اذا اتفق كلهم مع الاراء المختلفة و العقول المتباينة علي ان هذا هو قول سيدهم و نبيهم فلايسعهم العذر الاّ القبول و الاّ (كانوا‌ خ‌ل) لكانوا رادين عليه و الراد عليه هو الراد علي الله و الراد علي الله علي حد الشرك بالله قال الله عزوجل و من يشاقق الرسول من بعد ماتبين له الهدي و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولي و نصله جهنم و ساءت مصيراً و اذا لم‏يحصل هذا الاتفاق الكاشف فآية من كتاب الله اذا كانت ناصة ما يختلفون في المعني المراد منها او لايحتمل الخلاف لغة فذلك ايضاً يقوم مقام الاجماع و الاتفاق و مخالف الاية بعد ظهور الحجة كافر خارج عن ربقة الاسلام و ليس عدم فهمه دليلاً علي الانكار لانه ما اوتي من العلم الاّ قليل (قليلاً خ‌ل) هذا حال العامي الذي دخل في الدين علي بصيرة و يقين و اما الذي لم ‏يدخل هكذا فالواجب عليه ان ‏يحصل لنفسه اولاً ديناً ثم يبني مسائله و احكامه علي تلك الطريقة و ذلك الدين.

و اما الخواص و هم الذين عرفوا الاسرار و فهموا بواطن الاخبار و الآثار فهؤلاء ايضاً فرضهم ان لايخرجوا عما استقر عليه المذهب و عما اتفقت عليه عقول اهل ملته بشرط خلوصهم عن شوب المعاندة فان عرفوا باطناً يوافق ظاهر ما عليه عامة المسلمين و المؤمنين في مراتبهم و درجاتهم فهو حق و الاّ فباطل لان صاحب الشريعة حين اقرهم علي ذلك ما غشهم و ما اغريهم علي

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 494 *»

الباطل حاشا و كلا و قد (لذا خ‌ل) قال مولينا الصادق عليه‌السلام ان قوماً آمنوا بالظاهر و كفروا بالباطن فلم‏ينفعهم ايمانهم شيئاً و ان قوماً كفروا بالظاهر و آمنوا بالباطن فلم‏ينفعهم ايمانهم شيئاً و لا ايمان ظاهراً الاّ بباطن.

فاذا عرفت هذه المقدمة فاعلم انه لا شك لاحد من المسلمين مع اختلافهم في المذاهب و الفرق بل كل الفرق من غير المسلمين ايضاً ان الله عزوجل خلق الخلق و كلفهم و لا شك ان التكليف لابد له من غاية و ثمرة و لاشك ان الثمرة ماظهرت في هذه الدنيا بل ربما قد عكست النتيجة حتي ورد في الاخبار أن الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر و قال تعالي و ما الحيوة الدنيا الاّ متاع الغرور و قال انما الحيوة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الاموال و الاولاد كمثل غيث اعجب الكفار نباته ثم يهيج فتريه مصفراً ثم يكون حطاماً و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة و قال ايضاً و لولا ان‏يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة و معارج عليها يظهرون و هذا امر واضح بديهي اتفاقي لايحتاج الي البيان فيجب ان ‏يكون في الآخرة داران لتحصيل الثمرة فان الدنيا مزرعة الآخرة احدهما (احديهما خ‌ل) دار رضاه و ثانيهما دار سخطه فالاول هو الجنة و الثاني هو النار و اتفقوا علي وجودهما و انهما موجودان في القيمة الاّ ان كثيراً من المخالفين قالوا انهما يوجدان بعد ذلك تدريجاً الي يوم القيمة لكن اجماع اهل البيت عليهم‌السلام و الفرقة المحقة باجمعهم علي ان الجنة و النار الآن موجودان من غير تغيير و تبديل قال الله عزوجل يستعجلونك بالعذاب و ان جهنم لمحيطة بالكافرين و قال ايضاً لو تعلمون علم اليقين لترونّ الجحيم ثم لترونها عين اليقين و قال ايضاً و ما هم عنها بغائبين و هذا لا اشكال فيه و لا ريب يعتريه و الفرقة المحقة مجمعة عليه و القرءان يشهد بتصديقهم فبعد اتفاق الفرقة و شهادة القرآن يجب التصديق و التسليم و الاّ لزمهم الخروج عن الاسلام.

ثم ان هذه الفرقة المحقة بل كل المسلمين و غيرهم ايضاً من سائر الملل و النحل مطبقون مجمعون علي انهما لا نفاد لهما و لا انقطاع و ان في القيمة

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 495 *»

يؤتي بالموت علي صورة كبش املح و يذبح بين الجنة و النار فيفني الموت و تبقي (يبقي خ‌ل) الحيوة و يفني العدم و يبقي الوجود بحيث لا موت بعده و لا خراب دونه فيقال لاهل الجنة لكم الخلود الدائم و لاهل النار لكم الخلود الدائم فما من انقطاع و لا زوال كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب و لهم مايشاؤن فيها و لدينا مزيد و لاشك ان الموت مايشاؤه احد في الجنة و بعد هذا الاجماع الكاشف الضروري عن قول النبي صلي‌الله‌عليه‌وآله ببقاء الجنة و النار دلت الآيات المحكمة و النصوص المتقنة علي ذلك و هي لاتحصي في القرآن و في الادعية و الاخبار كقوله عزوجل اكلها دائم و ظلها و قوله عزوجل تؤتي اكلها كل حين باذن ربها و قوله عزوجل ان الذين آمنوا و عملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لايبقون عنها حولاً و لايتصور الخلود بفناء الدار و الآيات في هذا المعني كثيرة من قرأ القرآن بالتدبر و النظر وجدها و كذلك النار ايضاً لقوله عزوجل خالدين فيها لايخفف عنهم العذاب و لا هم ينظرون و قوله عزوجل اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون و قوله عزوجل لايقضي عليهم فيموتوا و لايخفف عنهم من عذابها و امثالها من الآيات الكثيرة و هذا ايضاً مما لا اشكال فيه لدلالة القرآن الكريم علي ذلك و اتفاق حملة القرآن عليه فكان محكماً ثابتاً يجب التصديق و التسليم و القول به لانه اخبار النبي صلي‌الله‌عليه‌وآله عن الله عزوجل و هو يصدق و الرد عليه كفر بالله و التوقف بعد ظهور الدليل القاطع علامة الرد.

و حمل الخلود ايضاً علي المكث الطويل باطل لانه مجاز يحتاج الي دليل آخر و لم ‏يقم مع ان القرآن نزل علي لسان قومه و القوم كلهم متفقون علي بقائهما و دوامهما و عدم بيودهما و دثورهما و لذا قال مولينا الكاظم عليه‌السلام امور الاديان امران امر لا اختلاف فيه و امر فيه اختلاف فما ثبت لمنتحليه من كتاب مجمع علي تأويله او سنة عن النبي صلي‌الله‌عليه‌و‌آله لا اختلاف فيها او قياس تعرف العقول عدله ضاق لمن استوضح تلك الحجة الرد اليه و التسليم له الحديث.

فاذا كانت الامة سيما الفرقة الناجية منهم مجمعة علي مضمون

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 496 *»

الكتاب وجب العمل عليه و لايجوز رده و ان كان مخالفاً لادراكه و عقله و فهمه لان عقله ضعيف و ادراكه قليل و مقام التسليم مقام عدم الادراك و ان كان مخالفاً لبعض الظواهر الاخر من الآيات و الروايات لانها متشابهات يردّ حكمها الي المحكم قال الله عزوجل في محكم كتابه هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب و اخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و مايعلم تأويله الاّ الله و الراسخون في العلم و المحكم هو الذي يفهم تفسيره من نفسه او بواسطة اتفاق اهل اللسان عليه و توفر القرائن الدالة علي صحته و ارادته فيجعل ما هذا شأنه اصلاً فالمتشابهات التي تخالفه في الظاهر امتحاناً للقرايح و استنطاقاً للطبايع تحمل عليه و ترد اليه فوجب (فيجب خ‌ل) ان ‏يحمل خلود الجنة و النار و بقاؤهما و دوامهما اصلاً و محكماً و يحمل عليه ما بظاهره ينافيه ان قدر علي ذلك و الاّ فيذره في سنبله و يرد علمه الي اهله اذ ما لايعرف من الامور كثير و ما لايدرك من جل الشكوك و الشبهات و معرفة المقامات غير عزيز فليكن هذا من ذلك لا انه يجعل المنافي معارضاً فيشك في المحكم و يتحير فيه الاتري انه قد اتفقت الفرقة المحقة و طابقها العقل و النقل و محكم القرآن كقوله تعالي ليس كمثله شي‏ء و غيره ان الله سبحانه منزه عن الجوارح و الاعضاء و المكان و الزمان و الرؤية فاذا نظرنا الي قوله عزوجل يد الله فوق ايديهم و الرحمن علي العرش استوي و من كان يرجو لقاء ربه و وجوه يومئذ ناضرة الي ربها ناظرة ما نشك (نشكك خ‌ل) في ذلك الاصل المحكم الذي عندنا من تنزيه الحق سبحانه عن هذه الاشياء و لانتوقف و لانتحير بل نقطع قطعاً ثابتاً بان هذه الآيات لها معاني لاتنافي الآيات المحكمة و التي ثبت (ثبتت خ‌ل) بالعقل و النقل تحقيقه و تصديقه و ان لم‏نعرف تأويل ذلك و وجه عدم المنافاة و هذا الذي ذكرنا اصل اصيل و قاعدة كلية للعامي بل للعالم ايضاً في معرفة الاشياء و عدم التزلزل و الثبات فمن اخذ به فاز النصيب من المعلي و الرقيب.

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 497 *»

و اما ما استشكلوا في ذلك و تحيروا لذلك من حديث القبلية و البعدية و ان الله اذا كان قبل كل شي‏ء و بعد كل شي‏ء يجب ان‏ينقطع ماسوي الله فيلزم من ذلك انقطاع الجنة و النار فشبهة دخلت عليهم من جهة عدم معرفتهم لمعني القبلية و البعدية و يتصورون ان المراد بالقبلية و البعدية الزمانيتان لتكون القبلية مغايرة للبعدية و يكون القبل بالاضافة الي المبدأ (مبدأ خ‌ل) شي‏ء و البعد بالاضافة الي نهايته و نعوذ بالله من هذا الاعتقاد السخيف اذ لو كانت القبلية في الله سبحانه و تعالي غير بعديته لاختلف (لاختلفت خ‌ل) حالتاه و مختلف الحالة حادث لانه متغير و المتغير لايصلح لان ‏يكون قديماً لانه محتاج الي مغير اذ الشي‏ء لايغير نفسه و المحتاج لايكون غنياً فتبطل اذن (ظ اذا) ازليته و لذا قال مولينا اميرالمؤمنين عليه‌السلام لم‏يسبق له حال حالاً ليكون اولاً قبل ان‏يكون آخراً و يكون ظاهراً قبل ان‏يكون باطناً فاذا بطل ان‏يكون لله سبحانه حالتان فتكون اوليته عين اخريته و قبليته عين بعديته هو سبحانه قبل الاشياء بعين كونه بعدها كماتقول انه عالم بعين كونه قادراً و سميعاً بعين كونه بصيراً و بصيراً بعين كونه عليماً و علي هذا القياس و المراد بهذه القبلية و البعدية احاطته سبحانه فيما لايتناهي احاطة ازلية بحيث تكون الاشياء كلها منقطعة عنده هالكة لديه كماقال عزوجل كل شي‏ء هالك الاّ وجهه.

فاذا تحقق هلاك الاشياء في كل حال بدليل قوله هالك و عدم قوله سيهلك فصارت كالعدم عنده فهو قبلها حين كونه بعدها من غير لزوم تحقق نسبة في ذاته تعالي لم‏تكن قبلها تعالي ربي عن ذلك علواً كبيراً فانه صفة الامكان فلايوصف الواجب سبحانه و تعالي به و هذه القبلية و البعدية لاتنافيان (لاتتنافيان خ‌ل) وجود الاشياء فان الاشياء كلها حاضرة في ملكه بعد ماخلقها ناطقة بثناء مجده فقيرة محتاجة اليه و منقطعة لديه و هذا الانقطاع ليس انقطاع عدم بل انقطاع استمداد كالكلام بالنسبة الي المتكلم فانه في بقائه و تقومه دائماً يحتاج الي احداث المتكلم اياه و اصداره له فهو دائماً هالك و المتكلم يقومه و يبقيه و هو بعد الكلام و قبله بمعني انه محيط بكل احواله و وجوده و كينونته و ساير عوارضه و شؤونه و هذا هو المراد بالقبلية و البعدية و

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 498 *»

ليس المراد منهما مايفهمه العوام من التحديد فان ذلك كفر بالله العلي العظيم و انكار لازليته تعالي الله عن ذلك علواً كبيراً و انما كررت العبارة لاجل الوضوح و البيان فانها في الجملة بعيدة عن الافهام فثبت ان مااتفق عليه المسلمون من بقاء الجنة و النار و دوامهما و استمرارهما ثابت محقق لايعارضه و لاينافيه امر من الامور و بقي سالماً عن جميع المعارضات.

و ان اردت الدليل العقلي علي هذا المعني فاعلم ان فيض الله سبحانه لاينقطع اذ انقطاع الفيض من غير موجب و سبب يكون عبثاً و العبث لايجوز علي الله سبحانه و هو حكيم و الحكيم لايفعل عبثاً و يلزم البخل ايضاً و لذا لماسئل الحكيم عن ذلك و قيل له هل ربك حكيم ام لا قال بلي قال ا من الحكمة ان‏يخلق الخلق ثم يعدمهم قال الحكيم انما كسرهم ليصيغهم صيغة لاتحتمل الكسر انتهي و هذا الموت كسر و هدم لهذه البنية حتي يخلقها سبحانه خلقاً اقوي و اشد لتقوي علي البقاء الدائم فان هذه البنية كانت مشوبة بالاعراض و الغرايب ماتحتمل الدوام الابدي فاذابها الله سبحانه و كسرها و جعلها في الارض كان لم‏يكن حتي تذهب عنها الاعراض و الغرايب حتي تخلص و تصفي و تحتمل البقاء و الدوام.

و بالجملة ان الله سبحانه من علي الخلق بالوجود بفضله و كرمه و حباهم هذه العطية قبل استحقاقهم برحمته و رأفته (برأفته و رحمته خ‌ل) و مقتضي ذلك ان‏يثبت هذا الوجود ابقاءاً لعطيته اذ لايناسب مقام الربوبية ان ‏يعطي تفضلاً و مناً ثم يأخذ العطية من غير داع و سبب ان قلت ان الداعي اظهار القهارية و التسلط قلت ان ذلك قد حصل بالموت مع ان هذه القهارية تظهر في كل حال لاضمحلال الخلق و احتياجهم في جميع احوالهم و اعمالهم سيما في القيمة اذ الاسباب الظاهرية المعروفة الآن كلها تنقطع هناك و يخلص الملك و الامر في الظهور لله الواحد القهار و الغلبة و القهر مع الوجود ادل و اثبت من العدم اذ العدم لايترتب عليه شي‏ء حتي يري قهر الله و غلبته و هذا ان‏شاء الله ظاهر معلوم.

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 499 *»

ان قلت ان ماذكرت يدل علي وجود الجنة و بقائها و لايدل علي وجود النار و بقائها و استمرارها قلت ان الحكم واحد لان الله سبحانه لماافاض الوجود و بسط الكرم و الجود انقسم هذا الوجود بالقابلية المختارة عند وجودها فالوجود علي قسمين لان الوجود مادة صالحة لكل موجود فماتحدد منه بحدود الاقبال و الطاعة و تصور بصورة العمل و الاجابة كان جنة و نعيماً و ماتحدد بحدود الاعراض و الانكار و المخالفة و تصور بصورة الكسالة و الادبار كان عذاباً اليماً فالوجود الذي هو فيض الله سبحانه في المقامين واحد كالمطر كماقال الشاعر:

اري الاحسان عند الحر ديناً
  و عند النذل منقصة و ذماً
كقطر الماء في الاصداف در
  و في بطن الافاعي صار سماً

فقوام الامرين بالوجود الذي هو فيض الله سبحانه و منته فلو اخذ الوجود انعدم الامران كما انه لو قابلتك مرايا متعددة مختلفة في الاستقامة و الاعوجاج و الاحمرار و الاصفرار و انت نظرت نظراً واحداً اليها تحكي هذه المرايا كلها مقدار ماعندها فبعضها (تظهر خ‌ل) ماتظهر الصورة فيها عوجاء و بعضها حمراء و الاخري صفراء و الاخري بيضاء مع ان وجهك واحد و ظهورك و مقابلتك التي هي فيضك واحدة فان اعرضت عن المقابلة تبطل الصور كلها مستقيمة كانت ام معوجة صحيحة كانت ام مضطربة باطلة فابقاء الفيض يستلزم ابقاء الجنة و النار فافهم ضرب المثل اعانك الله علي التقوي.

و اما سر تحقق القابلية و وجدان الحدين حد الايمان و حد الكفر و حد الطاعة و المعصية و كيفية تحديد الوجود بهذه الحدود فلبيانه يطول الكلام مع انه من اسرار القدر الذي قال اميرالمؤمنين عليه‌السلام بحر عميق فلاتلجه و سر الله فلاتهتكه و طريق مظلم فلاتسلكه و ليس بيانه ايضاً مقصوداً في هذا المقام فان المراد في هذا المقام نفس وجود الحدين و تحقق الصورتين و لا شك انهما موجودتان و لايشك فيه انسان و المادة التي هي الوجود فيهما واحدة فلو اخذ الوجود لعدم الامران كما انه اذا لم‏يكن الماء علي وجه الارض لم‏ينبت شي‏ء لا

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 500 *»

الحنظل و لا السكر فاذا وجد الماء و اجتمعت و تمت الشرايط الحنظلية لايجوز علي الله في الحكمة ان‏يمنعها لانه يستلزم الجبر و خلاف الحكمة و منع المستحق عطيته و الله اجل عن ذلك. فثبت بالعقل و الكتاب و السنة و الاجماع ان الجنة و النار الآن موجودتان و انهما باقيتان الي الابد الي ما لا نهاية له و ان حديث الله قبل كل شي‏ء و بعد كل شي‏ء لاينافي ذلك فتبصر رحمك الله.

و اما قولهم في امر الخلود و التعذيب فاعلم ان اجماع المسلمين قد انعقد علي ان الكفار و الاشرار و المنافقين مخلدون في النار و دلت عليه الآيات الكثيرة من القرآن و احاديث امناء الرحمن عليهم سلام‌الله الملك الديان كماتقدمت الاشارة الي بعض الآيات و هذا لا اشكال فيه و لا ريب يعتريه و لا احد يختلف في ذلك و انما خالف شاذ من الملاحدة في هذه الامة و قالوا بان العذاب يرتفع عن الكفار في النار بعد ما مضي احقاباً و استدلوا في ذلك بمثل ما نقل في اول الرسالة من ان الله عزوجل رؤوف بالعباد (رؤوف رحيم خ‌ل) الي اخر مانقلنا عنهم و من قوله عليه‌السلام حكاية عن الله سبقت رحمتي غضبي و قوله تعالي خالدين فيها مادامت السموات و الارض الاّ ماشاء ربك و قوله صلي‌الله‌عليه‌و‌آله برواية ابن‏مسعود بطرق المخالفين سيأتي زمان علي جهنم ينبت في قعرها الجرجير[1] و يكون برداً و سلاماً عليهم و امثال ذلك من الامور الواهية التي هي اوهن من بيت العنكبوت و انا اقول انه قد جاء في الخبر عن سيد البشر صلي‌الله‌عليه‌و‌آله علي مارواه المخالف و المؤالف انه صلي‌الله‌عليه‌و‌آله قال كل ما كان في الامم الماضية و القرون السالفة يكون في هذه الامة حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة حتي انهم لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه انتهي و قال تعالي لتركبن طبقاً عن طبق و اليهود في تلك الامة قد قالوا بانقطاع العذاب و انه يؤول امرهم الي النعيم كما اخبر الله سبحانه عنهم بقوله تعالي و قالوا لن تمسنا النار الاّ اياماً معدودة ثم

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 501 *»

كذبهم الله سبحانه و قال قل اتخذتم عند الله عهداً ام تقولون علي الله مالاتعلمون و قال الذين لايؤمنون في هذه الامة مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون حيث قال الله سبحانه في محكم (آياته خ‌ل) كتابه اخباراً عن اهل النار خالدين فيها لايخفف عنهم العذاب و لا هم ينصرون و قال ايضاً سبحانه و تعالي لايقضي عليهم فيموتوا و لايخفف عنهم من عذابها و كذلك كانوا يؤفكون و قال ايضاً سبحانه و تعالي كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب و كذا الايات الاخر و الروايات في هذا المقام لاتحصي و اذا قال الله سبحانه و اخبر و حكم بانهم مخلدون لايقضي عليهم فيموتوا و لايخفف عنهم من عذابها و قالت الفرقة المحقة و نطقت اثار اهل‏بيت النبوة فكيف يمكن التوقف و ردّ كلام الله سبحانه هل جعل الله سبحانه ديناً ناقصاً استعان بآرائهم و عقولهم المغيرة المنكرة لاتمامها و هل يوجد حق والله سبحانه مصرح بخلافه و لم‏ينصب قرينة لنفيه او هل يرد المحكم و يؤخذ المتشابه اذ ليس في كلام الله سبحانه مايشير الي ما يقولون الاّ قوله تعالي و اما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير و شهيق خالدين فيها مادامت السموات و الارض الاّ ماشاء ربك و هذا ليس صريحاً في مدعاهم و الاشارة اليه لان هذه النار التي فيها مادامت السموات و الارض هي نار الدنيا لا نار الآخرة كما اخبر الحق سبحانه عنها بقوله الحق النار يعرضون عليها غدواً و عشياً و يوم تقوم الساعة و لاشك ان الآخرة لا في جنتها و لا في نارها غدو و لا عشي فصح ان ذلك هو نار الدنيا و هذه باقية مادامت السموات و الارض فاذا السماء انشقت و الكواكب انتثرت و الجبال سيرت و العشار عطلت و الارض زلزلت و السموات تدكدكت و ينفخ في الصور يموتون اي كل من كان في جنة الدنيا و نارها و هذا سر الاستثناء و هذا لايدل علي نار الآخرة و المقصود عدم انقطاعها لا نار الدنيا فانها منقطعة يقيناً و الدليل علي ان المراد من النار في الاية الاولي هي نار الدنيا بعد ما ذكرنا قوله مادامت السموات و الارض اذ ليس في الآخرة هذه السموات و الارض كماهو الظاهر من الاية و هذا هو العذاب الادني في قوله عزوجل و لنذيقنهم

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 502 *»

 من العذاب الادني دون العذاب الاكبر فليس في هذه الاية الشريفة دلالة علي مدعاهم.

و لئن سلمنا و قلنا ان المراد من النار في الآية الشريفة هي نار الآخرة و السموات هي سماؤها و ارضها قلنا ان الجواب حينئذ كما قال مولينا الصادق عليه‌السلام علي مارواه اصحابنا بان المراد من المستثني جماعة من عصاة الشيعة قد افرطوا في الدنيا في العصيان و الطغيان فان لم ‏تكفر ذنوبهم في الدنيا بابتلائهم بالمصايب و المحن او عند الموت بتشديده عليه او في القبر بالهول المطلع او في البرزخ بنار برهوت في وادي حضرموت او في القيمة بزيادة العرق و وقوع الاهوال العظيمة و بقي من ذنوبهم اكثر من ثمانين سنة يدخلون في ضحضاح من النار و يعذبون فيها لهم فيها زفير و شهيق خالدين فيها مادامت السموات و الارض الاّ ماشاء ربك اذ بعد ما صفوا اخرجوا عنها و غسلوا في عين الحيوان ثم ادخلوا الجنة نقلت معني الحديث ملخصاً مرتبطاً باخبار آخر مع انا نقول لهم ان هذه الآية ان اخذتم بظاهرها يلزمكم ان ‏تقولوا بانقطاع النعيم ايضاً مع انكم لاتقولون به اذ اول الآية هكذا و اما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السموات و الارض الاّ ماشاء ربك عطاء غير مجذوذ و اما الذين شقوا الي اخر الآية فيجب تأويلها فكانت من المتشابهات فردها الي المحكمات الدالة صريحاً علي عدم التخفيف لان تلك الآيات صريحة لاتحتمل الخلاف بخلاف هذه الآية اذ يجب تأويلها علي اعتقادكم فثبت ان الآية الشريفة مادلت علي مطلوبهم بشي‏ء.

و اما الرواية المدعاة المروية عن ابن‏مسعود فهي ليست منا و لا من طرقنا و لا في اخبارنا ما تعاضدها و توافقها بل هي مخالفة لصريح القرآن و كل خبر اذا خالف صريح القرآن يضرب علي عرض الحايط مع انهم قد حذفوا اول الحديث لما فيه من الفضيحة الشنيعة و اخذوا عجزها اذ اول الحديث هكذا معناه عن ابن‏مسعود ان الله عزوجل يضع قدمه في جهنم بعد ان (ما خ‌ل) مضي

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 503 *»

عليهم احقاباً فيقول قط قط[2] فينبت من تحت قدمه الجرجير فيكون برداً و سلاماً عليهم و انت خبير بان اجماع الفرقة المحقة قد انعقد بان الله ليس له قدم بل و لايجوز اطلاق القدم عليه سبحانه كاليد و بالجملة كل من له ادني معرفة بطور محاورات اهل العصمة عليهم‌السلام يقطع بان هذا الحديث موضوع عليهم ليس هذا طريقتهم و كلامهم و هو ظاهر ان شاء الله.

و اما الاستشهاد بحديث سبقت رحمته غضبه فباطل ايضاً لانهم مايعنون بهذا السبق ان كان مرادهم بهذا السبق ان الغضب في كل مقام يفرض فالرحمة سبقته في ذلك المقام فعلي هذا يلزم ان لايخلق النار و العذاب اصلاً و رأساً و لايدخل احد في النار اذ لا شك ان النار غضب و الرحمة قد سبقته فتدرك الرجل المستحق للنار الرحمة قبل الغضب فلايدخل النار فعلي هذا يكون خلق النار قبيحاً اذ ليس لها اهل و سكان و قال تعالي يوم نقول لجهنم هل امتلأت و تقول هل من مزيد و هذا انكار ضروري الدين و لاشك ان منكره كافر باجماع المسلمين و ان كان مرادهم بهذا السبق السعة و الانتشار بخلاف الغضب فتكون الرحمة اوسع من الغضب نقول هل للغضب حينئذ محل ام لا فان قلت لا عاد الكلام الاول فان قلت بلي قلت لماذا ادركه الغضب هل لسوء عمله و قبح سريرته ام لا فان قلت لا جاء الظلم و حاشا ربي عن ذلك و لااقل من مخالفة الحكمة و ان قلت بلي قلت لماذا تدركه الرحمة بعد ذلك ان قلت لتطهيره عن درن السيئات قلت هذا لايتصور الاّ لمن له جهتان قلب و لسان طاهر بذاته نجس بظاهره يجري فيه التطهير و اما نجس العين فلايزداد التطهير الاّ قبحاً الاّ ان‏ينقلب الي حقيقة اخري كالكلب المنقلب الي الملح و العذرة المنقلبة الي الارض فاذا انقلب و صار حقيقة اخري فلا شك انه ليس هو الاول فما ادركته الرحمة بل ادركته النقمة حيث اعدمته و هذا الاعدام مستحيل لان ذلك الخلق الجديد ان خلقه مضطراً تناقض فعل الله سبحانه لانه ابي ان‏يخلق المكلفين

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 504 *»

ذوات الشعور و الارادة الا مختارين و حكم الله واحد ماتري في خلق الرحمن من تفاوت و ان خلقه مختاراً فلايثاب و لايعاقب الاّ بعد التكليف فاذا كلفهم و فرضنا انهم اختاروا الكفر ماذا يصنع بهم هل يقلبهم الي حقيقة اخري فيجري الكلام الاول فيه حرفاً بحرف و ان لم‏يقلبهم فهو كافر نجس العين لم‏يقبل التزكية و لا التطهير ان قلت ان الرحمة تدركه و ان كان نجساً كافراً قلت ان ذلك و ان لم‏يتصور لو فرضنا ذلك قلت اذن لم‏ادخله النار في اول الامر مع ان الحكم في المقامين واحد فكان فعله الاولي عبثاً لان الله سبحانه مايعذب لتشفي غيظه و تبريد غليل صدره نعوذ بالله من ذلك فان قلت اذن فما معني قوله تعالي و رحمتي وسعت كل شي‏ء و لا شك ان الكافر في النار شي‏ء فتسعه رحمة الله قلت اذن ما الذي يدعوه الي ادخالهم النار في اول الامر اما كانوا اشياء ثم تشيؤوا فلم لم‏تدركهم الرحمة فيكون المراد من هذه الرحمة الواسعة هي رحمة الرحمان الذي استوي بها علي العرش فبسطت يداه بالانفاق يد الفضل و يد العدل فيد الفضل ادركت اهل الجنة في الجنة و النعيم و يد العدل ادركت الكافر في الجحيم فمادخل الكافر في النار الاّ بالرحمة و هي العدل و الحكمة قال تعالي و رحمتي وسعت كل شي‏ء فسأكتبها للذين يتقون و لو كان المكتوبة و الواسعة واحدة لقبح القول فسأكتبها مع الاتيان بالسين الاستقبالية فقد وسعت الرحمة الكافر في النار بانواع الاليم و العذاب و النكال و الوبال و ان كان المراد بسبق الرحمة ان الله خلق الرحمة اولاً و بالذات و خلق مقتضاها كذلك و خلق الغضب ثانياً و بالعرض و مقتضاه كذلك كما هو الحق فهذا لاينافي تأبيد العذاب و تخليد العقاب بل يحققه و يثبته فافهم.

و اما ماتعلقوا به من امر الرحمة و الرأفة و ان الله رؤف بالعباد رحيم عليهم فتأبي رحمته ان ‏يخلد عبده في العذاب ابد الآبدين و هو ماعصاه الاّ زمان قليل في الدنيا فجوابه اعلم ان الله سبحانه لما دعا الخلق الي طاعته و عبادته و الاقرار بربوبيته و نبوة انبيائه و وصاية اوليائه و خلفائه انقسم الخلق الي قسمين: احدهما اقروا و اعترفوا قلباً باطناً بقلوبهم و نفوسهم و

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 505 *»

ارواحهم ثم عملوا بمقتضي ذلك ظاهراً بظاهر اعمالهم و اقوالهم فهؤلاء هم السابقون الطاهرون المطهرون قدطهرت بواطنهم بنور المعرفة و الاعتقادات الحقة و ظواهرهم بنور الاعمال الصالحة فهم علي الهيئة الانسانية ظاهراً و باطناً سراً و علانية و هؤلاء من اهل الجنة لانهم الطيبون الابرار فمكانهم و زمانهم يجب ان ‏يكونا كذلك قال الله تعالي الطيبات للطيبين و لا طيب في الآخرة الاّ الجنة و ثانيهما انكروا باطناً عناداً و عتواً و استكباراً و اقروا ظاهراً نفاقاً و سخرية و استهزاء و هؤلاء هم الاخباث الاخسرون بواطنهم نجسة بنجاسة الانكار فصارت النجاسة القلبية جزءاً لماهية قلبه و ذاتية له فصاروا نجس العين باطناً و كذلك ظاهراً بالاعمال الردية و الاخلاق الذميمة لانهم المدبرون المعرضون عن الحق سبحانه و تعالي بظواهرهم و بواطنهم و الاعراض يستلزم بل يجمع كل شر و قبح و سوء كما ان الاقبال يستلزم و يجمع كل نور و حق و هؤلاء الاخباث لايمكن ان ‏يكونوا بمكان (في مكان خ‌ل) نظيف طاهر لانه خلاف الحكمة فوجب ان‏ يكونوا في جهنم مأويهم سقر ماتدري ما سقر لواحة للبشر عليها تسعة عشر و يستحيل ان‏ يدخلوا الجنة ابداً فهم اصحاب النار قال تعالي بلي من كسب سيئة و احاطت به خطيئته فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون اذ من المحال ان‏يجعل الحكيم الخبيث في مكان طيب مثل انك لو جعلت الكلب و الخنزير في حجرة طاهرة نظيفة مزخرفة بالذهب التي يقعد فيها عيالك و اطفالك يقبحونك العقلاء و لايرضون بفعلك ابداً و انت لاتفعل ذلك ابداً و ان كنت رؤوفاً رحيماً رقيق القلب و هذا ظاهر ان شاء الله.

و قد تولد من ملاحظة القسمين اقسام اخر يطول بذكرها الكلام من احكام المزج الاّ ان احدها هو الذي اقر قلباً و باطناً الاّ انه عصي و جري عليه حكم الانكار ظاهراً فهذا في باطنه و سريرته طاهر طيب و في ظاهر اعماله نجس فهو صاف مشوب بالكدورات كالذهب المغشوش فان هذا يطهر و يذاب في النار لتذهب الاوساخ و الكدورات ثم يجري (تجري خ‌ل) عليه احكام الذهب الخالص الصافي لانه صفا و تخلص عن الاوساخ فهذا الشخص اذا ادخله الله النار

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 506 *»

بقبيح (بقبح خ‌ل) عمله لنجاسة ظاهره فيبقي في النار الي ان‏يتلخص و يصفي فاذا تخلص و تصفي ادركته الرحمة فتدخله الجنة و اما الذي هو صرف النجاسة و عين الوسخ فهو لايصفي و لايتخلص و لايقبل التطهير كلما تبالغ في تنظيفه يكثر وسخه و تغلظ نجاسته و المواد و الاجسام في الآخرة حيوانات قال تعالي و ان الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون فلايعتريها موت فالمادة النجسة باقية ابداً فاذا اصابتها النار تتبخر و تتصاعد دخاناً اغبر مظلماً منتناً و لاتفني المادة ليذهب النتن و انما هي باقية لاتقان الصنع فلاتزيده النار الاّ كثافة و خبثاً و نتناً و قبحاً مثاله انك اذا اشعلت النار في العذرة او في الجيف (الجيفة خ‌ل) كيف تظهر الكثافة و النتن و العفونة الي ان‏يبقي لموادها اثر و لو فرضت بقاء موادها ابداً لما انفك عنها تلك الكثافة و النتن ابداً و هل يجوز للرحيم الرؤوف ان ‏يجعل تلك الجيف المنتنة و القاذورات في بيته و داره و محل قربه و رضاه حاشا و كلا لايفعله الحكيم بل و لا الجاهل فكيف الرب العظيم اذ الكفار بانكار قلوبهم صاروا نجس العين كثيفاً منتناً في الغاية و اشد من نتن جيف هذه الدنيا و عفونتها بسبعين الف مرة و هو معني قول علي بن الحسين عليهما‌السلام لو ان رايحة المعصية تفوح لماجلس احدكم في جنب صاحبه فاذا كان كذلك فكيف يدخلهم الله الجنة المكان الطيب الطاهر محل قدسه و رضاه و موضع كرامته و لا فرق بين اول ما يدخلون في النار و بين ما يمكثون فيها احقاباً لان علة الغضب في الصورتين موجودة ما تغيرت فلو جاز اخراجهم و تنعمهم بعد المدة و الحقب جاز عدم ادخالهم النار و رفع العذاب عنهم في اول الامر بل ربما كان في اول الامر احسن مع ان هذا كلام لايتصور لان الكافر مدبر مولي عن الحق ابداً و الرحمة هي الاقبال و كيف يمكن ان‏يكون الادبار عين الاقبال او ان الرجل اذا ادبر يحكم عليه بالاقبال فان ذلك كذب لايجوز علي الحكيم.

فظهر لك ان اهل النار كلما طالت عليهم المدة يشتدون في العذاب لانهم نجس العين و النار تظهر نتن بواطنهم الي الابد لان الموت قد ذبح و لايدركهم فصارت مواد اجسامهم و ارواحهم باقية ابد الآبدين و لذا يتمنون

 

«* جواهر الحکم جلد 8 صفحه 507 *»

الموت كما اخبر الله سبحانه ياليتها كانت القاضية, هلك عني سلطانيه و انت لاتتوهم ان النار التي تصيبهم نار خارجية و ان الله سبحانه يعذبهم من جهة انهم ما اطاعوه ليتسلي به و يتشفي به غيظه, تعالي ربي عن ذلك و انما النار هي اعمالهم كالطبيب اذا قال لشخص لاتأكل الشي‏ء الفلاني فانه يضرك و يهيج الصفراء فيك و كل الآخر فانه يقويك و يدفع عنك المرض و لم‏يسمع قول الطبيب فاكل الذي يضره فيتمرض و ليس علي الطبيب بأس ثم انه قال له اذا اردت ان‏تطيب عن هذا المرض فاجتنب عن اكل بعض الاشياء فلم‏يفعل فيتزيد (فيزيد خ‌ل) مرضه فلو فرضنا ان الرجل ماعالج هذا المرض و بقي الي آخر الابد لاشك يبقي في كل الاحوال علي الدوام مغشوش الحال مختل الاحوال مريضاً و هذا الموت الذي يعتريه لضعف البنية و اما اذا كانت البنية قوية فلم‌‏تمت لكنها تتغير و تتكدر بحسب العوارض فهذا المرض و هذا الوجع و الضيق الذي في المريض ليس الاّ بعمله و فعله و ليس ان الطبيب جعله كذلك و كذلك صنع الله في خلقه جعل لهم اختياراً و بصيرة و نهاهم عن مايضرهم و دلهم و ارشدهم الي مايصلحهم ثم جعل لهم الدواء و المخلص اذا اوقعوا انفسهم في المضار و هو التوبة و الانابة الي الله سبحانه فاذ لم‏يفعلوا و عاندوا و اعرضوا باختيارهم فيجزيهم بماكانوا يكسبون قال تعالي و مماخطيئاتهم اغرقوا فادخلوا ناراً و خلودهم لنجاسة قلوبهم فان تلك النجاسة لم‏تقبل التطهير و تلك الميتة لم‏تقبل التذكية ابداً و لو اردنا ان‏نشرح و نبين اسباب ماذكرنا و علله و مباديه و اصل كيفية الايجاد يطول علينا الكلام مع ان ذلك لاينفع العوام و فيما اشرنا اليه في هذه الوريقات كفاية لاهل الدراية اعاذنا الله و اياكم من شر الشيطان بمحمد و آله سادة (سادات خ‌ل) الانس و الجان و لا حول و لا قوة الاّ بالله العلي العظيم و صلي الله علي محمد و آله الطاهرين و لعنة الله علي اعدائهم اجمعين الي يوم الدين و السلام علي تابع الهدي.

قد فرغ من تسويدها مؤلفها ليلة الرابعة من شهر (كذا) المظفر في سنة 1235 حامدا مصليا مستغفرا.

[1] الجرجير بقلة معروفة كما في الحديث الهندباء لنا و الجرجير لبني‌امية.

[2] قط قط بفتح القاف و سكون الطاء من اسماء الافعال بمعني انته انته.